أعلن رئيس مجلس النواب الليبي، عقيلة صالح، في 6 يناير 2022، التوصل إلى اتفاق مع رئيس المجلس الأعلى للدولة، خالد المشري، بشأن إنجاز الوثيقة الدستورية اللازمة لإجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، فضلاً عن التوافق على وضع خريطة طريق جديدة، وهو ما عكس مؤشراً إيجابياً بشأن احتمالية تحقيق انفراجه في المشهد الليبي.
اتفاق جديد قديم:
على الرغم من المؤشرات الإيجابية التي عكسها الاتفاق بين صالح والمشري، فإن ثمة تقديرات أخرى قللت من مخرجات هذا الاتفاق، لاسيما أن الرجلين توصلا سابقاً إلى توافقات مشابهة، لكنها لم تحقق اختراقاً حقيقياً في الأزمة الليبية المتفاقمة. وفي هذا السياق، يمكن تفصيل أبعاد الاتفاق الجديد في التالي:
1- إنجاز الوثيقة الدستورية: تضمن الاتفاق الأخير المبرم بين صالح والمشري التأكيد على ضرورة الإسراع في إنجاز الوثيقة الدستورية التي يفترض أن تحكم الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة، وعلى الرغم من توصلهما إلى اتفاق أولي بشأن القاعدة الدستورية، بيد أن المشري ألمح إلى أن هناك بند أو بندين لا يزالا محل نقاش بين مجلسي النواب والدولة.
وأكد المشري أنه توصل إلى اتفاق مع صالح، على ضرورة أن تكون القاعدة الدستورية توافقية بشكل كامل بين المجلسين، وأنه إذا ما استمر الخلاف بين الجانبين بشأن بعض المواد، سيتم طرح الوثيقة الدستورية للاستفتاء الشعبي لحسم الخلاف.
وأشارت تقارير ليبية إلى أن الوثيقة الدستورية الجديدة التي تم الاتفاق عليها مؤخراً خلال اجتماعات صالح والمشري في القاهرة انطوت على حوالي 67 مادة فقط، مقارنة بـ198 مادة كانت تتضمنها القاعدة الدستورية التي تم إنجازها سابقاً من قبل اللجنة المشتركة من مجلسي النواب والدولة، بعد جولات الحوار التي استضافتها القاهرة منتصف 2022، إذ لم تشتمل الوثيقة الدستورية على غالبية التفاصيل الخاصة بالتحضير للانتخابات المقبلة، وذلك على أساس أن هذه التفاصيل من المفترض أن تتضمنها خريطة الطريق المرتقبة.
2- خريطة طريق جديدة: أشار البيان الصادر في أعقاب اجتماعات صالح والمشري في القاهرة إلى اتفاق الطرفين على طرح خريطة طريق جديدة للمشهد الليبي خلال الأيام المقبلة، لكن، حتى الآن، لم يتم الإفصاح عن مضمون هذه الخريطة.
وهناك تسريبات بأن الخريطة الجديدة سوف تتضمن الاستفتاء على القاعدة الدستورية، في حالة الخلاف حول بعض بنودها، مع تحديد موعد للانتخابات بنهاية عام 2023، ناهيك عن التشاور بشأن تشكيل حكومة مصغرة جديدة، تتولى إدارة البلاد لحين إجراء الانتخابات.
كما يرجح أن تتضمن خارطة الطريق ملف توحيد المؤسسة العسكرية، خاصةً في ظل تكرار المشاورات بين ممثلين عن الجيش الوطني الليبي وبعض المجموعات المسلحة بغرب ليبيا، ومحاولة التوصل إلى توافقات تفضي إلى استيعاب بعض هذه المجموعات داخل الجيش الليبي.
3- ترحيب بإجراء الانتخابات: أعلنت بعض الفواعل الدولية والإقليمية ترحيبها بمخرجات اتفاق صالح والمشري في القاهرة، فقد أعلنت البعثة الأممية في ليبيا ضرورة البناء على الاتفاقات السابقة لمجلسي النواب والدولة، والعمل على إطلاق مسار واضح يفضي في النهاية إلى إنجاز الانتخابات خلال 2023.
وعلى المنوال ذاته، ألمح سفير واشنطن ومبعوثها الخاص لدى ليبيا، ريتشارد نوريلاند، إلى أن التوافقات الأخيرة بين رئيسي مجلسي النواب والدولة يمكن الاستناد إليها في الدفع نحو إنجاز الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، مقدماً الشكر للقاهرة على جهودها للتوصل إلى هذا التوافق. كذا، رحبت الجامعة العربية باتفاق صالح والمشري بشأن القاعدة الدستورية، داعيةً إلى ضرورة البناء على هذه الخطوة للإعلان عن خريطة طريق جديدة، تنطوي على إطار زمني واضح.
دلالات مهمة:
عكس اتفاق صالح – المشري الأخير عن جملة من الدلالات المهمة، والتي يمكن عرضها على النحو التالي:
1- تباينات داخلية: تباينت المواقف الداخلية في ليبيا إزاء الاتفاق الذي توصل إليه صالح والمشري في القاهرة، فبينما اعتبرته بعض الأطراف أنه بمنزلة خطوة إيجابية يمكن البناء عليها، خاصةً في ظل الحديث عن التوصل إلى اتفاق بين الرجلين بشأن ضرورة استقالة العسكريين قبل الترشيح للانتخابات الرئاسية المقبلة، وهو الملف الذي لطالما شكل نقطة خلاف بينهما سابقاً، أثارت أطراف أخرى شكوكاً بشأن قدرة هذا الاتفاق على تحقيق اختراق في ملف القاعدة الدستورية المرتقبة، خاصةً في ظل الحديث عن وجود بعض البنود الخلافية التي لم يتم التوصل إلى اتفاق بشأنها في مشروع الوثيقة الدستورية، فضلاً عن عدم الإفصاح، حتى الآن، عن ملامح خريطة الطريق الجديدة التي يعتزم مجلسا النواب والدولة إطلاقها للمرحلة المقبلة.
وذهبت بعض الأطراف إلى حد اتهام صالح والمشري بمحاولة إيجاد صيغة تعزز من نفوذهما الداخلي ومكتسباتهما الشخصية، وتضمن استمراريتهما في المشهد خلال المرحلة المقبلة، مع العمل على إزاحة الدبيبة من السلطة، وتخفيف حدة الضغوط الدولية الرامية إلى الإسراع في إجراء الانتخابات.
2- توافقات بين القاهرة وأنقرة: يلاحظ أن التوافقات الأخيرة بين صالح والمشري ترجع إلى التفاهمات الراهنة بين مصر وتركيا، واتجاه البلدين إلى تهدئة الخلافات بينهما في الملف الليبي، لا سيما أن الاتفاق الأخير جاء بعد أسابيع قليلة من التوترات التي اندلعت بينهما بشأن قانون المحكمة الدستورية الذي أصدره البرلمان الليبي.
3- توظيف ملف الانتخابات :يلاحظ أن توافق صالح والمشري حول القاعدة الدستورية وخريطة الطريق المرتقبة جاءت رداً على الاتهامات التي أطلقها رئيس حكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايته، عبد الحميد الدبيبة، مطلع يناير 2023، لهما، بالعمل على صياغة اتفاق مشبوه يستهدف تعطيل الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، وتقسيم السلطة بينهما، مشيراً إلى استعداده تنظيم الانتخابات خلال العام الجاري.
فبعد أيام قليلة من تصريحات الدبيبة، أعلن صالح والمشري التوصل إلى اتفاق القاهرة، ويبدو أن التحركات الراهنة لرئيسي مجلسي النواب والدولة أثارت تخوفات الدبيبة، خاصةً في ظل الحديث عن إعادة هيكلة السلطة التنفيذية بموجب الخريطة المرتقبة.
وتسعى حكومة الدبيبة، لإقناع الإدارة الأمريكية برفض خريطة الطريق الجديدة، والتي قد تفضي بتشكيل حكومة جديدة في البلاد، من خلال التلويح ببعض الامتيازات المرتبطة بالطاقة التي يمكن أن تمنحها حكومة الدبيبة لواشنطن، وهو ما انعكس في زيارة وزير النفط والغاز بحكومة الدبيبة، محمد عون، إلى الولايات المتحدة، ولقائه بمساعد وزير الخارجية الأمريكي، جيفري بيات، ومسؤولي شركة كونكوفيلبس الأمريكية، حيث تضمنت هذه اللقاءات مناقشة مشروعات استثمارية جديدة تتطلع الشركة الأمريكية إلى تنفيذها في ليبيا.
4- موقف دولي ملتبس: تكشف التصريحات الصادرة عن البعثة الأممية والسفارة الأمريكية في القاهرة عن ترحيبهما بإنجاز الانتخابات الرئاسية والبرلمانية خلال 2023، مع عدم تفضيل فكرة إقامة سلطة تنفيذية جديدة تتولي مسؤولية الإعداد للاستحقاقات المقبلة، كون أن هذه الخطوة ربما يتمخض عنها إثارة صراعات جديدة في الداخل الليبي. وفي المقابل، لا يزال الموقف الأوروبي يتسم بالغموض، في ظل التزام القوى الأوروبية الفاعلة في الملف الليبي الصمت إزاء الاتفاق الأخير بين صالح والمشري.
تحولات مرتقبة:
يبدو أن هناك تحولات مرتقبة ربما تطرأ على هذا الملف خلال الفترة المقبلة، يمكن عرضها على النحو التالي:
1- اجتماع مرتقب في ليبيا: قد تشهد الفترة المقبلة تنظيم اجتماع جديد بين صالح والمشري في أحد المدن الليبية في النصف الثاني من يناير 2023، وربما يسبقها تصديق المجلسين على مشروع الوثيقة الدستورية، بحيث يتم الإعلان عن بنودها خلال اللقاء المرتقب بينهما، مع عدم استبعاد الإعلان عن ملامح خريطة الطريق الجديدة خلال هذا الاجتماع.
2- ترتيبات جديدة محتملة: استضافت القاهرة اجتماع مشترك، في 9 يناير 2023، جمع قائد الجيش الوطني الليبي، خليفة حفتر، ورئيس المجلس الرئاسي، محمد المنفي، في محاولة لتوسيع التوافقات الأخيرة التي رعتها مصر بين مجلسي النواب والدولة. ويأتي هذا اللقاء الأخير بين حفتر والمنفي بالتزامن مع اجتماعات أخرى استضافتها العاصمة الأردنية عمان، بين وفد ممثل للجيش الليبي، يقوده العميد، صدام حفتر، وممثلين عن بعض الميليشيات المسلحة الموجودة في غرب ليبيا، والداعمة لحكومة الدبيبة، حيث لفتت بعض التقارير إلى أن هذه المشاورات هي الثانية من نوعها بين الجيش الوطني الليبي وبعض ميليشيات غرب ليبيا.
وفي هذا السياق، لم تستبعد بعض التقديرات أن تفضي الجهود الراهنة التي تقودها القاهرة إلى صياغة توافقات داخلية جديدة، تضم الكثير من الفاعلين في المشهد الليبي، بما يعزز من فرص نجاح التفاهمات بين صالح والمشري.
3- تخوفات من تفتيت الجبهات الداخلية: هناك مخاوف من احتمالية أن تؤدي تفاهمات صالح – المشري إلى تفتيت التحالفات القائمة بالفعل، في ظل حديث بعض التقارير غير المؤكدة، عن وجود تفاهمات بين حفتر، والدبيبة، في مواجهة رئيسي مجلسي النواب والدولة. بل أن هناك بعض التقديرات غير المؤكدة ألمحت إلى أن الاجتماعات التي تحتضنها الأردن بين ممثلين عن الجيش الوطني الليبي وبعض المجموعات المسلحة في غرب ليبيا تستهدف صياغة توافقات جديدة بين حفتر والدبيبة، وهو ما قد يعيد خلط الأوراق من جديد. كما انتقد أنصار النظام السابق والداعمين لسيف الإسلام القذافي اتفاق صالح – المشري، على أساس إشارة تقارير إلى اتفاقهما على إقصاء القذافي الابن من الترشح للانتخابات القادمة.
وفي الختام، تبقى فرص نجاح التحركات الراهنة لصالح والمشري رهينةً لقدرتهما على الحصول على دعم دولي، خاصة بعد الدعم المصري والتركي لتحركاتهما، والتي قد تفضي كذلك إلى التوافق على تشكيل حكومة ليبية جديدة. ولذلك قد تشهد ليبيا سيناريوهين رئيسيين، إما أن تؤول بالبلاد إلى ترتيبات جديدة، تمهد الطريق أمام التحضير للانتخابات بنهاية العام الجاري، مع الاتفاق على استقالة العسكريين قبل الترشح للرئاسيات، مقابل التمسك بإقصاء مزدوجي الجنسية، وهو ما يفتح الباب أمام إمكانية قبول حفتر بالبقاء على رأس المؤسسة العسكرية، والدفع بأحد أبنائه للترشح في الانتخابات المقبلة، مع ضمان استبعاد الدبيبة وسيف الإسلام القذافي. بينما يتمثل السيناريو الآخر في إمكانية انقسام التحالفات القائمة لصالح أخرى جديدة.